كان الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد بدأ ينتشر بعد السنة
السادسة للهجرة، وبعد هزيمة هوازن وثقيف، بدأت الوفود تَرِد إلى الرسول
معلنة إسلامها، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، وقلَّ عدد المشركين الذين
يعبدون الأصنام، لكنَّ بعض الذين دخلوا في الإسلام كان منهم ضعاف الإيمان،
فلم يدخلوا في الإسلام إلا انبهارًا بسيطرة المسلمين على الجزيرة
العربيَّة، ومنهم مَن جاء رغبة في المال والغنائم، والارتباط بالقوَّة
الأُولَى الجديدة في الجزيرة، ومنهم مَن جاء خوفًا من قوَّة المسلمين،
ومنهم مَن جاء اتِّباعًا لزعمائهم وقادتهم، فَسَاقهم زعماؤهم كالقطيع،
فدخلوا في دين لا يعرفون حدوده، ولا فروضه، ولا تكاليفه، ولم يفقهوا حقيقة
الرسول وحقيقة الرسالة، ولم يعيشوا مع القرآن ولا مع السُّنَّة.
وكانت وفاة الرسول فرصة لهؤلاء لكي يُظْهِروا ما أخفَوْه، ولكي يُعْلِنوا ردَّتهم عن الدين الحنيف.
كان
ارتداد الجزيرة العربيَّة على درجات فمِن العرب مَن منع الزكاة، ومنهم مَن
ترك الإسلام كلَّه وعاد إلى ما كان يعبد من أصنام، ومنهم مَن لم يَكْتَفِ
وقرر الإنقلاب على المسلمين الذين لم يرتدُّوا، فقتلوهم، وذبحوهم، وفعلوا
بهم أشنع المنكرات.
وكان على أبي بكر رضي الله عنه أن يُواجه
هؤلاء، وأن يُؤَمِّن حدود الدولة الإسلاميَّة ضدَّ الأعداء الخارجيين وفي
مقدِّمتهم دولة الروم.
وقبل وفاة الرسول صلى الله عليه سلم كان قد
أعدَّ جيشًا بقيادة أسامة بن زيد لإرساله إلى مشارف بلاد الشام للثأر من
الروم لقتلى معركة مؤتة، وتأديب الغساسنة، وأوصى صلى الله عليه وسلم
بتحريك الجيش قبل وفاته لكنه مات قبل أن يَبْرَح الجيش المدينة، وظلَّ
أسامة على حدود المدينة ينتظر الأوامر.
راح الجميع يُفَكِّرون في
مواجهة أعداء الأمة الإسلاميَّة الوليدة فرأى بعض المسلمين أن تُوَجَّه
كلُّ الجهود إلى محاربة المرتدِّين، وأن يُؤجّل الدفع بجيش أسامة لمحاربة
الروم إلى ما بعد القضاء على خطر الردة، وأن يتفرَّغ أبو بكر لذلك، لكنَّ
أبا بكر قرر المحاربة في كل الجبهات "والله لأقاتلَنَّ من فرَّق بين
الصلاة والزكاة، واللهِ لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله
لقاتلتهم على منعه".
وأصرَّ أبي بكر أن يُتِمَّ بعث أسامة "والله
لا أحُلُّ عقدةً عقدها رسول الله ولو أن الطير تَخْطَفُنَا، والسباع من
حول المدينة، ولو أن الكلاب جَرَت بأرجل أُمَّهات المؤمنين لأجهزنَّ جيش
أسامة".
وكان لخروج الجيش إلى أطراف الشام فائدة كبيرة للمسلمين
حيث فرَّت أمامه الجيوش الروميَّة في هذه المنطقة، فلم يَلْقَ قتالاً،
ووجد بعض القبائل المرتدة فقاتلهم، وشتَّتَ شملهم، وهزمهم، وعاد بسرعة إلى
أبي بكر الصِّدِّيق في المدينة، فأحدث بكل القبائل العربيَّة الموجودة في
هذه المنطقة رهبة من المسلمين مما جعلهم يظنُّون أن للمسلمين قوَّة، وأن
هذا جزء صغير من الجيوش الموجودة فيها، فقرَّرَوا عدم الهجوم على المدينة
وإيثار السلامة، فكان جيش أسامة حكمة ألهمها الله لأبي بكر.
وبعدما
علمت القبائل المرتدَّة بخروج الجيش أرسلت عُيَيْنة بن حصن الفزاري، ومعه
الأقرع بن حابس؛ ليُفاوضا المسلمين في المدينة في أن يَقْبَلَ أبو بكر
منهم الصلاة، ويرفعَ عنهم الزكاة، في مقابل أن يرفع المرتدُّون أيديهم عن
المدينة، فجاء الصحابة إلى أبي بكر يعرضون الأمر.
ورفض أبي بكر
وقرر أن يُقاتلهم حتى يؤدُّوا حقَّ الله فيما عندهم من أموال لعلمه بأن
الزكاة ركن من أركان الإسلام، لا فرق بينه وبين الصلاة والحجِّ والصوم.
وقام
الصِّدِّيق بحراسة المدينة المنوَّرة حراسة مستمرَّة، فوضع الفِرَق
العسكريَّة في كل المداخل، ثم قام بمراسلة كل القبائل التي بقيت على
الإسلام لتوافيه إلى المدينة المنوَّرة، وأقام مُعَسْكَرًا للجيوش
الإسلاميَّة شمال المدينة، وأرسل رسائل شديدة اللهجة إلى كل قبائل
المرتدِّين يدعوهم فيها إلى العودة إلى ما خرجوا منه، وإلاَّ حاربهم،
وهدَّدهم وتوعَّدهم ليُلْقِيَ الرهبة في قلوبهم، كنوعٍ من الحرب النفسيَّة.